سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى، وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله، كيف يمكن البراءة منهم بالكلية؟ وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا وخراب ديارنا، وإبقاءنا ضائعين فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره، أي بعقوبة عاجلة أو آجلة، والمقصود منه الوعيد.
ثم قال: {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضاً تهديد، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا.
قال الواحدي: قوله: {وَعَشِيرَتُكُمْ} عشيرة الرجل: أهله الأدنون، وهم الذين يعاشرونه، وقرأ أبو بكر عن عاصم {وعشيراتكم} بالجمع والباقون على الواحد.
أما من قرأ بالجمع، فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فإذا جمعت قلت: عشيراتكم. ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها، ويقوي ذلك أن الأخفش قال: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر، وقوله: {وأموال اقترفتموها} الاقتراف الاكتساب.
واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار، وهى أمور أربعة: أولها: مخالطة الأقارب، وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج، ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل، وهي لفظ العشيرة.
وثانيها: الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.
وثالثها: الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة.
ورابعها: الرغبة في المساكن، ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن، فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة، وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى، فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب، وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.


{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن، رعاية لمصالح الدين، ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جداً على النفوس والقلوب، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضاً، وضرب تعالى لهذا مثلاً، وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه، فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن، لأجل مصلحة الدين وتصبيراً لهم عليها، ووعداً لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه، هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن.
المسألة الثانية: قال الواحدي: النصر: المعونة على العدو خاصة، والمواطن جمع موطن، وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر، فعلى هذا: مواطن الحرب مقاماتها مواقفها وامتناعها من الصرف لأنه جمع على صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله. ويقال: إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له.
ثم قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم.
المسألة الثالثة: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد بقيت أيام من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف.
واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفاً، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفاً عشرة آلاف الذين حضروا مكة، وألفان من الطلقاء.
وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وبالجملة فكانوا عدداً كثيرين، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} وقيل إنه قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد، لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها.
ثم قال تعالى: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} أي لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} يقال رحب يرحب رحباً ورحابة، فقوله: {بِمَا رَحُبَتْ} أي برحبها، ومعناه مع رحبها فما هاهنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لفراركم عن عدوكم.
قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث قال البراء: والذي إله إلا هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط، قال: ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي، وكانت بغلته شهباء، ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار، وكان العباس رجلاً صيتاً، فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحصى فرماهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله تعالى، ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين}.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أموراً ثلاثة: أحدها: إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس، ويوجب الأمنة والطمأنينة، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك، وإذا أمن سكن وثبت، فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.
واعلم أن قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي، ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى.
أما بيان الأول: فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم، فلا جرم لم يحصل السكون والثبات، بل فر القوم وانهزموا ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية.
وأما بيان الثاني: وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} والعقل أيضاً دل عليه، وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد، لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل، وهو محال.
ثم قال تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم، ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة، وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر، وقال سعيد بن جبير: أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة ولعله إنما ذكر هذا العدد قياساً على يوم بدر، وقال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، وأيضاً اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.
ثم قال تعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم.
واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله، لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلاً بيناً ثابتاً، وفي هذه المسألة قالت المعتزلة: إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره، وقد سبق جوابه غير مرة.
ثم قال: {وذلك جَزَاءُ الكافرين} والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين، واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه. فنقول: في الجواب عنه الجزاء ليس اسماً للكافي، وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء، مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم، فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية.
ثم قال الله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاءُ} يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن الله تعالى قد يتوب عليهم.
قال أصحابنا: إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام.
قال القاضي: معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى، إذا أسلموا وتابوا فإن الله تعالى يقبل توبتهم، وهذا ضعيف لأن قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ الله} ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت لهم من قبل الله تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] ثم قال: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لمن تاب، رحيم لمن آمن وعمل صالحاً، والله أعلم.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة، أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برئ من المشركين ورسوله، قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة، وأجاب الله تعالى عنها بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً وحاجة {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} فهذا وجه النظم وهو حسن موافق.
المسألة الثانية: قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان.
وقال قوم: بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة، وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة، والذي يفيد هاهنا التمسك بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] ومعلوم أنه باطل.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً، ومعناه ذو نجس.
وقال الليث: النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء، ورجل نجس، وقوم أنجاس، ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس.
واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب الكشاف عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ، وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية، وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم.
واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل.
واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم، وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام. والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه: بأن القرآن أقوى من خبر الواحد، وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين:
الأول: أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله، فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى.
الثاني: أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا: إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان.
أما إذا قلنا: إنه كان حلالاً بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة، فوجب أن يكون هذا أولى.
أما قول القاضي: لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح، وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر، فهذا تقرير هذا القول، وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه:
الأول: قال ابن عباس وقتادة: معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث.
الثاني: المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه.
الثالث: أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء.
واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل.
المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم: أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس. ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة، وروى الحسن بن زياد: أنه نجس نجاسة غليظة، وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر.
واعلم أن قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} يدل على فساد هذا القول، لأن كلمة إنما للحصر، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك، فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس، ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة: والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، وهذا من العجائب، ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام: «المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً» فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن، ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن، والأخبار في هذا الباب، لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كانت يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده. ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب، فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته، وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة، وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام، قال الله تعالى في صفة أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار.
وقال في صفة مريم: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ} [آل عمران: 42] والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة.
وإذا ثبت هذا فنقول: جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار، فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى، فما الذي حملنا على مخالفته، والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية.
المسألة الخامسة: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة، وعند مالك: يمنعون من كل المساجد، وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد، والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله، وبمفهومها تبطل قول مالك، أو نقول الأصل عدم المنع، وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع، فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل.
المسألة السادسة: اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم؟ والأقرب هو هذا الثاني. والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة، وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم، وهذا استدلال حسن من الآية، ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانئ وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب».
واعلم أن أصحابنا قالوا: الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة، فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة، وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن.
المسألة السابعة: لا شبهة في أن المراد بقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} والعيلة الفقر. يقال: عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر، والمعنى: إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار فسوف يغنيكم الله من فضله وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً: الأول: قال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار.
والثاني: قال الحسن: جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك. وقيل: أغناهم بالفيء.
الثالث: قال عكرمة: أنزل الله عليهم المطر، وكثر خيرهم.
المسألة الثانية: قوله: {فُسُوف يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة، وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة.
ثم قال تعالى: {إِن شَآءَ} ولسائل أن يسأل فيقول: الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة، وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود، وجوابه من وجوه:
الأول: أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب، فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات.
الثاني: أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب، كما في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] الثالث: أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور، لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] وكلمة من تفيد التبعيض فقوله تعالى في هذه الآية: {إِن شَآءَ} المراد منه ذلك التبعيض.
ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالكم، وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب، والله أعلم.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9